أثار الإجراء البيزنطي ثائرة أبناء المُنذر فشقّوا عصا الطاعة على الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة، فتركوا ديارهم وتحصَّنوا في البادية، واتخذوها مركز انطلاق لِشن الغارات على المناطق البيزنطيَّة بِقيادة النُعمان، وهو الأخُ الأكبر (أو شقيق المُنذر وفق أحد المصادر)،[21] فتعرَّضت بُصرى لِغاراتهم، واستولوا على حوران، ما دفع الإمبراطور البيزنطي موريس إلى تجهيز حملة لِتأديبهم، وقد تمكنت تلك الحملة من القبض على النُعمان وأرسلهُ قائدها ماگنوس إلى القُسطنطينيَّة مُكبلًا.[18] تصدَّعت مملكة الغساسنة على إثر هذه الأحداث وتفكَّكت عُرى وحدتها، واختارت كُل قبيلةٍ أميرًا عليها، وراحت تتطاحن فيما بينها وتُغيرُ على المناطق الحضريَّة في الشَّام، وزاد الغزو الفارسيّ للشَّام الوضع سوءًا وتعقيدًا، الأمر الذي دفع البيزنطيين إلى تعيين ملكٌ غسَّاني جديد لِيقوم بضبط الوضع وإعادة الأمن إلى نصابه وحِماية الحُدود من هجمات الفُرس وحُلفائهم الحيريين،[22] واستمرَّ الأمر على هذه الحال حتَّى انتصر الروم على الفُرس سنة 628م. وفي تلك الفترة، كان الرسول مُحمَّد قد وطَّد دعائم الدولة الإسلاميَّة في المدينة المُنوَّرة، وأرسل العديد من الرسائل إلى الحُكَّام المُجاورين، ومنهم نجاشي الحبشة أصحمة بن أبجر، وكسرى الثاني شاه فارس، والمُقوقس قيرس السَّكندري عامل الروم على مصر، وهرقل قيصر الروم،[ْ 7] يدعوهم فيها إلى الإسلام، وقد قام دحية بن خليفة الكلبيّ بنقل رسالة الرسول إلى هرقل، وكان نص الرسالة كالتالي: «بسم الله الرحمن الرحيم مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ، سَلاَمٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الأَرِيسِيِّينَ. ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾».[23] وتنص المصادر الإسلاميَّة أنَّ هرقل أرسل جوابًا على الرسالة مُعترفًا بنبوة مُحمَّد: «لَقَد اسْتَقْبَلتُ رِسَاَلَتَكَ مَعَ المَبْعُوثِ، وَأَعْتَرِفُ أنَّكَ رَسُوْلُ اللهِ المَذْكُوْرُ لَدَيْنَا فِي العَهْدِ الجَدِيْدِ، إِنَّ عِيْسَى بِنُ مَرْيَمَ قَد بَشَّرَ بِك»،[24][25] ثُمَّ أبلغ سُكَّان الإمبراطوريَّة بذلك، وإذ خشي ثورتهم تراجع مُعلنًا أنه كان يختبرُ إيمانهم بالمسيح فحسب.[ْ 8][ْ 9]
أوضاع الشَّام عشيَّة الفُتوح الإسلاميَّةعدل
الوضع السياسي
قبعت الشَّام تحت ظل الحُكم الروماني ومن ثُمَّ البيزنطي ما يقرب من سبعة قُرون قبل أن تسقط بين المُسلمين، وقد تخلل ذلك فترة قصيرة سقطت خِلالها في يد الفُرس الساسانيين، قبل أن يستعيدُها البيزنطيّون بِقيادة الإمبراطور هرقل.[ْ 10][ْ 11] دام الاحتلال الفارسيّ للشَّام حوالي 17 سنة، وفي سنة 626م حاصر الفُرس القُسطنطينيَّة نفسها وهددوها بالسُقوط، لكنَّ هرقل كان قد أعدَّ خِلال هذا الحِصار خطَّةً عسكريَّةً لاجتياح فارس انطلاقًا من شمالي القوقاز بمُعاونة الأرمن والكرجيّون والخزر، فاستولى أولًا على مدينتيّ تفليس ودوين في أرمينية، ودخل مدينة جانزاك عاصمة أردشير الأوَّل، وأشعل النَّار في معبد زرادشت المجوسي انتقامًا لِما أنزلهُ الفُرس بكنيسة القيامة من خرابٍ ودمار عندما اجتاحوا الشَّام، وفرَّ الشاه كسرى الثاني من المدينة، لكنَّ هرقل اضطرَّ إلى إيقاف حملته والعودة إلى القُسطنطينيَّة بعد أن تعرَّضت لِهُجوم الآڤار حُلفاء الفُرس من الغرب، فاستغلَّ كسرى الفُرصة وهاجم العاصمة البيزنطيَّة من الشرق، غير أنَّ فشل هُجوم الآڤار حملهُ على الانسحاب، وارتدَّ إلى الشَّام.[26] أتاحت هذه الظُروف الفُرصة لِهرقل لِيستكمل خِطَّته الهُجوميَّة التي كان قد أعدَّها، فشرع في خريف سنة 627م بالزحف نحو الأراضي الفارسيَّة، وظهر أمام نينوى. وهُناك نشبت المعركة الحاسمة التي قرَّرت مصير النزاع بين فارس وبيزنطية، فأحرز هرقل نصرًا واضحًا، وحلَّت بالجيش الفارسي هزيمة ساحقة، ثُمَّ واصل زحفه باتجاه المدائن فاستولى عليها في سنة 628م، وكان كسرى الثاني قد هرب منها عند اقتراب الجيش البيزنطي. وما حدث آنذاك من انقلابٍ في فارس، إذ جرى عزل كسرى الثاني وقتله وتوليه ابنه قباذ الثاني شيرويه العرش؛ جعل من استمرار الحرب أمرًا لا داعي له، فعقدت الدولتان اتفاقيَّة صُلح استردَّت بيزنطية بِمُوجبها ما كان لها من أملاكٍ في أرمينية والجزيرة الفُراتيَّة والشَّام.[26] تركت الحرب البيزنطيَّة الفارسيَّة الإمبراطوريتين مُنهكتين، فلم يتمكَّن هرقل من استعادة التوازن الإمبراطوري، وقد أدّى توالي الأزمات الدَّاخليَّة والخارجيَّة السريعة إلى عدم الاستقرار والتناقُضات والتقلُّب، وهي الأُمور التي فرضت على هرقل أن يظل في حالةٍ مُضطربة.[26] وبِتنامي القُوَّة الإسلاميَّة، شعرت القبائل العربيَّة المُوالية لِبيزنطية في جنوبي الشَّام بِحُدوث تغيُّرٍ دينيٍّ وسياسيٍّ في الحجاز، على مقربةٍ منها، تمخَّض عن قيام حُكومةٍ مركزيَّةٍ قويَّةٍ في المدينة المُنوَّرة، ودخلت في طاعتها مُعظم قبائل شبه الجزيرة العربيَّة، وراحت تتطلَّع نحو الشمال. ورأت في هذا التطوُّر خطرًا يُهددُ كيانها الدينيّ والسياسيّ، لذلك وثَّقت علاقتها ببيزنطية. ورأى هرقل في هذا التنامي تدخُلًا في شؤونه واختراقًا لِسيادته بعد انتصاره الكبير على الفُرس، ومع ذلك فقد عدَّهُ مُجرَّد اندفاعٍ قبليٍّ أو مُحاولة إمارةٍ عربيَّةٍ ناشئة توسيع رُقعتها الجُغرافيَّة، من ذلك النوع الذي اعتاد بدو الصحراء أن يشُنّوه بين وقتٍ وآخر على أطراف الإمبراطوريَّة، ولا تلبث أن تتوقَّف تلقائيًّا عندما يتصدّى لها خُرَّاسُ الحُدود من فِرق الجيش الإمبراطوريّ أو القبائل المُوالية لِبيزنطية التي تعيشُ على تُخومِ الشَّام.[27]
إداريًّا
أنشأ الرومان بعد سُقوط بيت المقدس بأيديهم سنة 70م خِلال الثورة اليهوديَّة الكُبرى ولاية فلسطين السوريَّة التي جمعت مناطق اليهوديَّة والسامرة والجليل، وقسَّموها إلى أبرشيَّتين.[ْ 12] وقامت على أطراف تلك الناحية من الإمبراطوريَّة مملكة الغساسنة العربيَّة الحليفة للروم كما أُسلف.[ْ 13] وفي الفترة اللاحقة على سنة 415م، قسَّم الروم البيزنطيون ولاية فلسطين السوريَّة إلى قسمين: سوريا الأولى (باللاتينية: Syria Prima) وعاصمتُها أنطاكية وسوريا الثانية (باللاتينية: Syria Secunda) وعاصمتُها أفاميا. وفي سنة 528م أوجد الإمبراطور جُستنيان مُحافظة «ثيودوریاس» (تيمُنًا بزوجته ثُيودورا)[ْ 14] الساحليَّة عبر اقتطاع بضعة أراضي من الولايتين سالِفتا الذِكر.[ْ 15] كذلك، كان الروم قد أنشأوا سنة 400م مُحافظتيّ فينيقيا الساحليَّة (باللاتينية: Phoenice Paralia) وعاصمتها صور وفينيقيا اللُبنانيَّة (باللاتينية: Phoenice Libanensis) وعاصمتها حِمص.[ْ 16] وتنُصُّ وثيقة الكرامات العرضيَّة (باللاتينية: Notitia Dignitatum) التي كُتبت بعد فترةٍ قصيرةٍ من الفتح الإسلامي للشَّام، أنَّ فينيقيا السَّاحليَّة كانت تُحكم من قِبل قُنصل، بينما حُكمت فينيقيا اللُبنانيَّة من قِبل «رئيس» (باللاتينية: Praeses)، وأنَّ كِلا المُحافظتين كانتا تتبعان الأبرشيَّة المشرقيَّة.[ْ 17] وعندما تسلَّم هرقل زمام الحُكم في القُسطنطينيَّة سنة 610م، كان الخراب والدَّمار قد حلَّا بالإمبراطوريَّة، وساءت أحوالُ البلاد الاقتصاديَّة والماليَّة، وأصاب الشلل أجهزة الإدارة الحُكوميَّة، فأضحت الحاجة ماسَّة لِقيام حركة إصلاح داخليَّة، فالتفت هرقل في بادئ الأمر إلى إعادة تنظيم أقاليم الدولة بما أدخلهُ من نظام الأجناد، وترتب على ذلك التخلُّص من أُسس النظام الإداري الذي وضعهُ الإمبراطوران دقلديانوس وقِسطنطين، والذي لم يعد مُلائمًا لِسد حاجات العصر.[28] وجرى تقسيم الأراضي التي لم يمسَّها العدوُّ بالضرر إلى أقاليم عسكريَّة كبيرة، وهي المعروفة بالأجناد، يتولّى حُكمُ كُلٍّ منها قائدٌ عسكريٌّ. وبذلك اتخذت التنظيمات الإداريَّة الجديدة طابعًا عسكريًّا خالصًا.[ْ 18] ويتمثَّل هذا النظام في استقرار الجُند في أقاليم آسيا الصُغرى والشَّام، ولِذا جرى إطلاق لفظ أجناد على الأقاليم العسكريَّة التي نشأت بعد ذلك، وأضحى هذا اللفظ الذي كان يُطلقُ على لواءٍ من الجُند، يُطلقُ على الأرض التي تُشغلها القوَّات العسكريَّة، وتقرَّر منح الجُند مساحاتٍ من الأرض كحلٍّ للاضطراب الماليّ بِشرط أن تكون الخدمة العسكريَّة مُقابل ذلك وراثيَّة.[29] حلَّ نظامُ الأجناد محل نظام حُكومات الأقاليم الذي فقد أهميَّته، والذي كان يُعدُّ من أهم مظاهر الإدارة البيزنطيَّة. ونتج عن ذلك أن تغلَّبت الصفة العسكريَّة على إدارة الإمبراطوريَّة، وأُعيد النظر بِتنظيم القُوَّات المُسلَّحة. وأتاح هذا التغيير إلى قلب المُعادلة العسكريَّة لِصالح الروم أمام الفُرس.[30] غير أنَّ هذا النظام الجديد لم يترسَّخ في الشَّام بِفعل قِصر المُدَّة بين إقراره ووُقوع هذه البِلاد بيد المُسلمين، وبالتالي لم يُتح لِهذا الإقليم أن يستفيد من إيجابيَّاته، وفوجئ البيزنطيّون بالزحف الإسلامي باتجاه الشَّام وهُم في حالة انتقالٍ من النظام القديم إلى النظام الجديد المُستحدث.
اجتماعيًّا
كان عامَّة الشوام قبل الفتح الإسلامي يشعُرون بالظُلم الاجتماعي المُرتبط أساسًا بالنظام المالي الذي أثقل كاهلهم بالضرائب الباهظة. وكانت الضرائب المفروضة على المُدن والقُرى الشَّاميَّة على نوعين: ضرائب نظاميَّة، وضرائب طارئة لِمُواجهة أوضاع خاصَّة. وأهمَّ الضرائب النظاميَّة اثنتان: الأولى هي ما يُفرضُ على الأرض وتُقدَّرُ بنسبةٍ مُعيَّنةٍ من قيمتها، ثُمَّ قُدِّرت بِنسبة 12.5% من المحاصيل، والثانية هي ضريبة الرأس. أمَّا الضرائب الطارئة فتُفرض في مُناسباتٍ خاصَّة، وتُعدُّ أكثر إرهاقًا للطبقة الشعبيَّة من الضرائب النظاميَّة، مثل ضريبة الحرب في أيَّام الإمبراطور هادريان، وضريبة التَّاج، وضريبة الطعام لِسد الحاجات المُتغيِّرة للحاميات وللإدارة الروميَّة. وأُضيفت ضريبة الأرض إلى ضريبة الرأس في عهد قِسطنطين، فأضحى مجموعُ الوحدات التي تُجمع بين النَّاس والأرض، أساسًا للتقدير، وهذا يعني ربط الإنسان بالأرض.[31] ويبدو أنَّ هذا النظام الضريبي لم يعد يفي بِسد حاجات الإمبراطوريَّة بسبب كثرة النفقات العسكريَّة والإداريَّة. وسبَّب عُيوب النظام الإداري انتشار الفساد، وتفشّي السرقة، وابتزاز الأموال، وأدّى ذلك إلى الفقر والخراب، وأثار الاضطرابات الدَّاخليَّة، وفُقدانُ الأمن. وما حدث في الإمبراطوريَّة بعد ذلك من مُشكلاتٍ اجتماعيَّةٍ وتراجُع الزراعة بِفعل الحُروب المُستمرَّة في الخارج والثورات الدَّاخليَّة؛ دفع بالإمبراطور جُستنيان إلى حل المُشكلات الماليَّة من خِلال إصلاح النظام الضريبي، ففرض على رعاياه أن يدفعوا كُل ما للحُكومة من ضرائب، وأمر بِمسح الأرض، وقسَّمها إلى وحداتٍ مُتساويةٍ في قيمة الإنتاج بِغض النظر عن مساحتها، تدفع كُل وحدة منها ضريبة ثابتة، ثُمَّ أحصى السُكَّان في القُرى وفرض عليهم ضريبة الرأس. وتحدَّدت قيمة الضريبة في الشَّام على الذُكور من 14 إلى 65 سنة، وعلى الإناث من 12 إلى 65 سنة.[31] وحصل الملَّاكون الكِبار على حق جباية الضرائب المُستحقَّة على ضِياعهم ودفعها إلى الخزينة المركزيَّة مُباشرةً ممَّا جعل سُلطة الجُباة عليهم مُنعدمة. وكُلِّف المجلس البلدي في كُل قرية بِجمع الضرائب من القُرى التابعة للمدينة وتوزيعها. ولقد ساهم سُكَّانُ القُرى في دفع الضرائب.
نتج عن هذا النظام أن تحمَّل الفلَّاحون والمُزارعون العبء الأكبر من الضريبة، ورُبطوا هُم وأُسرهم بالأرض التي سُجِّلوا عليها، وذلك بهدف تيسير جمع الضرائب، ولِضمان زراعة الأرض. كما أنَّ سوء الجباية وتعسُّف الجُباة دفع صِغار الملَّاكين إلى طلب حِماية كِبار الملَّاكين ليتولّوا مسؤوليَّة دفع الضرائب عنهم مُقابل تنازُلهم لهم عن أملاكهم، فأصبحوا بذلك مُزارعين مُرتبطين بالأرض. وعمد الملَّاكون الكِبار من جهتهم إلى مُضايقة الملَّاكين الصِغار، ودفعهم إلى طلب حمايتهم بهدف توسيع مُلكيَّاتهم. ومع أنَّ السُلطات الحُكوميَّة المركزيَّة لم تكن تُشجِّع الحِماية، وحاولت الحد منها، إلَّا أنها اعترفت بها في أوائل القرن الخامس الميلاديّ، كأمرٍ واقع وكحلٍّ لِمُشكلة الضائقة الاقتصاديَّة.[31] ومن الأمثلة التي يسوقها المُؤرخون المُتعلِّقة بالظُلم الاجتماعي في الشَّام خِلال العصر البيزنطي، وتُؤخذ على أنَّها دليلٌ على وُقوعه، أنَّ المُسلمين عندما اضطرّوا للجلاء عن حِمص قبل معركة اليرموك، طلب أبو عُبيدة من عامله على الخِراج أن يُعيد ما كان قد أخذهُ من أهل حِمص إليهم، بحجَّة أنَّه لا ينبغي للمُسلمين أن يأخذوا من الأهالي شيئًا إذا لم يمكثوا في المدينة ويُدافعوا عنها.[32] واجتمع حبيب بن مسلمة بِأهل حِمص وردَّ عليهم مالهم، فقالوا له: «رَدَّكُمُ اللهُ إلَيْنَا، وَلَعَنَ اللهُ الذِينَ كَانُوا يَمْلِكُونَنَا مِنَ الرُّوْمِ، وَلَكِن وَاللهِ لَو كَانُوا هُم عَلَيْنَا مَا رَدُّوا عَلَيْنَا، وَلَكِن غَصَبُوْنَا، وَأَخَذُوا مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِن أَمْوَالِنَا، لَوِلايتُكُمُ وَعَدْلُكُمُ أحَبُّ إلَيْنَا مِمَّا كُنَّا فِيْهِ مِنَ الظُّلْمِ وَالغُشْمِ».[33]
دينيًّا
دانت الغالبيَّة العُظمى من أهالي الشَّام قبل الفتح الإسلامي بالمسيحيَّة، وكان هُناك قسمٌ صغير يدينُ باليهوديَّة. وقد انقسم النصارى الشوام إلى طوائف مُختلفة، ومن المعروف أنَّ هذا الانقسام حصل مُنذ اختتام أعمال مجمع خلقدونية سنة 451م، ومُحاولة الأباطرة الروم تطبيق قراراته عبر جميع أنحاء الإمبراطوريَّة وعلى جميع الأهالي. وكان هذا المجمع قد عُقد للتباحث حول طبيعة المسيح وإقرار مذهب رسمي مُوحَّد للإمبراطوريَّة بعد أن كثُرت الأقوال والمذاهب، واستقرَّ الرأي في النهاية على الإيمان باتحاد الطبيعتين، الإلهيَّة والبشريَّة، في شخص المسيح، اتحادًا غير قابل للانفصام.[34] وقد حصلت في الشَّام مُنذُ ذلك الوقت قلاقل دينيَّة اتخذت صفة الثورات الوطنيَّة العنيفة عوض الفتن الطائفيَّة بشكلٍ مُباشرٍ، بِدليل استمرار تحالُف القبائل العربيَّة النصرانيَّة، المُخالِفة للعقيدة الرسميَّة للإمبراطوريَّة، مع بيزنطية. ومن المعروف أنَّ النصارى الشوام انقسموا إلى سُريانٍ أو يعاقبة، وملكيّون أو روم. ويُشيرُ المُؤرخون إلى أنَّ المذهب اللاخلقدوني المونوفيزيتي (اليعقوبي) انتشر بين القبائل العربيَّة مثل إياد وربيعة وقُضاعة. أمَّا القائلون بالمذهب الخلقدوني (الملكيّون) فكانوا بِمُعظمهم يعيشون في المُدن التي اصطبغت بالثقافة الهلينيَّة، مثل أنطاكية وسلوقية واللاذقيَّة وبعلبك وبيروت وقيصريَّة وبيت المقدس. وكانت نسبةٌ عالية من اليعاقبة مُستاءة من الحُكم المركزي،[35] وكان من الطبيعيّ أن تُولِّد تلك الانقسامات اللاهوتيَّة، والاضطهادات الدينيَّة، نفورًا وكراهيَّة وعداء في الشَّام، حيال الروم في بيزنطية، كما كانت عليه الحالة النفسيَّة في العراق تجاه الساسانيين الفُرس، الذين لم يمتنعوا عن اللُجوء إلى العُنف وسفك الدماء لِإخضاع المسيحيين، من نساطرة ويعقوبيين، إلى سياستهم المجوسيَّة.[34] كذلك فقد عانى المسيحيّون الشوام الأمرَّين بعد سيطرة الفُرس على البِلاد، إذ تعاون هؤلاء مع اليهود لاقتحام بيت المقدس بعد ثلاثة شُهورٍ من الحِصار،[ْ 19] وفتكوا بما بين 57,000 و66,500 مسيحيّ، وسبوا حوالي 35,000 آخرون بما فيهم بطريرك المدينة زكريَّا،[ْ 20] كما أُحرقت الكثير من الكنائس بما فيها كنيسة القيامة، وتمَّ الاستيلاء على عددٍ من الآثار المُقدَّسة بما فيها صليب الصلبوت والحربة المُقدَّسة والإسفنجة المُقدَّسة، ونُقلت كُلَّها إلى المدائن عاصمة فارس.[ْ 21] وقد ساهم اليهود في مذابح المسيحيين، وقتلوا الكثير منهم، لذا شاع كره اليهود في الشَّام بعد أن استعادها الروم، وقبل أن يفتحها المُسلمون.[ْ 22]
عسكريًّا
يرجعُ الفضل للإمبراطور موريس والقائد بلزاريوس في وضع أساس الجيش البيزنطي، وزاد الإمبراطور هرقل من كفاءته وقُدرته القتاليَّة، وانتصر به على الفُرس والصقالِبة والآڤار. أعاد الإمبراطور موريس تنظيم الهيكل العام للجيش، ووضع أُسس التجنيد، ورفعَ عديد الوحدة القتاليَّة إلى أربعمائة، وجعلها الوحدة الأساسيَّة للجيش، ثُمَّ جمع عددًا من هذه الوحدات في مجموعةٍ واحدة يتراوح عديدُها بين ستة وثمانية آلاف، وسمَّاها «الفرقة».[36] وتُشكِّلُ فرقة الفُرسان الثقيلة عِماد الجيش البيزنطي بما لها من أهميَّةٍ كبيرة. ويرتدي الفارس قميصًا معدنيًّا من رقبته حتَّى الفخذين، ويحملُ درعًا مُستديرًا، كما يرتدي قلنسوة على رأسه وقفَّازًا طويلًا يُغطي اليدين إلى ما بعد الرسغ، وينتعل حذاءً من الصُلب. وزُوِّدت جيادُ الضُبَّاط وقوَّاتُ الخط الأماميّ بِمُقدِّمة حديد لِحمايتها، وجُهِّزت الجِياد بِسُروجٍ مُريحة، وركابٍ حديديّ. يستخدمُ الفارس أثناء القتال سيفًا عريضًا وخنجرًا وقوسًا، ويحملُ جُعبةً مملوءة بالسِهام وحربة طويلة، ويُثبِّت بلطة في سرح حصانه أحيانًا.[36] وكان الزيُّ العسكريُّ موحدًا، يشتملُ على معطف ورايةٍ مُثلثة على رأس الرمح، وخصلة من الشعر على الخُوذة. والواقع أنَّ هذا اللباس العسكري للفُرسان، الذي اتصف بِثقل الوزن، شكَّل عائقًا أثناء العمليَّات القتاليَّة أمام القوى الإسلاميَّة التي اتصف مُقاتلوها بِخِفَّة الحركة، إذ حدَّ من حُريَّة حركة الفارس وحرمهُ من الاستفادة من كفاءته القتاليَّة ولياقته البدنيَّة.[36] وانقسمت فرقة المُشاة في الجيش البيزنطي إلى قسمين:
◾فرقة المُشاة الثقيلة: ارتدى أفرادُها رداءً معدنيًّا وقفَّازاتٍ طويلةٍ ودُروعًا للسَّاق وخوذة حديديَّة من الأمام، وحملوا دُروعًا مُستديرة كبيرة، وشكَّل الرمحُ والسَّيفُ والبلطةُ سلاحُهم الهُجوميّ. وكان هذا اللباسُ عائقًا ميدانيًّا لِهذه الفرقة من المُشاة تمامًا مثل فرقة الفُرسان الثقيلة.[36]
◾فرقة المُشاة الخفيفة: اقتصرت مُهماتُها العسكريَّة على الدفاع عن الممرَّات والمناطق الجبليَّة، وحِماية القِلاع والمُدن الهامَّة، وشكَّل الرُماة عِماد هذه الفرقة.[36]
ويتناسبُ تنظيم الوحدات العسكريَّة مع التكتيل الذي يُنفذونهُ أثناء القِتال، وهو أُسلوبٌ مرنٌ يتغيَّرُ من معركةٍ إلى أُخرى، ويُحدَّدُ من قِبل القادة بالاستناد إلى أُسلوبِ العدوِّ القتاليِّ. وكان هُناك سُلَّمٌ لِرُتب الضُبَّاط. أمَّا المُصطلحات الفنيَّة المُستخدمة في الجيش البيزنطي فكانت خليطًا من الكلمات اللاتينيَّة واليونانيَّة. وعرِفت بيزنطية نظام الكتائب في التكتيك القتاليّ القائم على سلاحيّ الفُرسان والمُشاة، وذلك بعد أن أخذتهُ عن اليونان، إلَّا أنَّهُ في العصر الإسلاميّ الأوَّل، كانت جُيوشُ بيزنطية تُقسم إلى فرق تُسمَّى «كراديس» يضمُّ كُلٌّ منها زهاء سُتمائة جُندي.[37] والمعروف أنَّ عديد الجيش البيزنطي النظامي في الشَّام لم يكن كبير الحجم، ولم يكن بإمكان الإدارة العسكريَّة البيزنطيَّة توفير أكثر من عشرين ألف جُندي للدِفاع عن هذه البِلاد، في ظل الأخطار التي تتعرَّض لها الولاياتُ الأُخرى في آسيا وأوروپَّا ومصر، ولا يُمكنُ الحُصول على جُنودٍ منها، لذا لم يبق مجالٌ في البحث عن قوى عسكريَّة للشَّام سوى أرمينية القريبة التي يُمكنُ الاعتماد عليها. كذلك عمد الروم إلى تجنيد العرب المُقيمين على أطراف الإمبراطوريَّة، وبخاصَّةٍ أنَّهم يتمتعون بِصفةٍ إضافيَّةٍ هي معرفة الأرض ومُناخها بالإضافة إلى أساليب القِتال. وتبنّى هرقل النظريَّة القائلة إنَّ خيرُ وسيلةٍ لِقتال العرب هي استخدامُ عربٍ آخرين إزائهم، لذلك كان من الضروريّ لِبيزنطية أن تحتفظ بِصداقة بعض القبائل، وتنويع صِلاتها بالعرب.[38] وكانت الإمبراطوريَّة البيزنطيَّة تعمد إلى تجنيد المُرتزقة لِلقتال في صُفوف جُيوشها عند نُشوب أيِّ حرب، لكنَّ الانهاك الاقتصادي الذي حلَّ بها بعد الحرب الطويلة مع الفُرس جعلها عاجزة عن تجنيدهم ما أن ظهر الخطر الإسلامي، واستعاض هرقل عن المُرتزقة بالجُند الفلَّاحون أهالي الأجناد التي قام بإنشائها، فغدا هؤلاء الذين حصلوا على إقطاعاتٍ مُقابل الالتزام بالخدمة العسكريَّة والنازلون في الإقطاعة، عُنصُرًا ثابتًا في قُوَّات الجيش البيزنطي، وأمدَّتهم إقطاعاتهم بالوسائل الاقتصاديَّة التي تكفل لهم سُبل العيش، فكان كُلٌّ منهم يخرج إلى الحرب بِسلاحهِ وفرسهِ.[30]