خمسة قرون على إسلام البوسنة والهرسك.
... العالم الإسلامي أوسع مما نستطيع استيعابه ، وأكبر من أن نحيط به ، وأجمل مما نستطيع تزيينه ، وأكثر تنوعا مما نستطيع الإحاطة به ، وأعلى مما نستطيع أن نحكم عليه ، ونحن جزء صغير من عالمنا الكبير المختلف الألوان واللغات والأفكار والأذواق ، وأشعر بالاعتزاز والفخر بانتمائنا لهذا العالم .
هكذا عبر سماحة الشيخ "مصطفى تسيريتش" ، رئيس العلماء والمشيخة الإسلامية في البوسنة والهرسك مؤخراً عن عواطفه النبيلة تجاه أمة الإسلام ، بمناسبة إصدار البوسنة لـ " أطلس العالم الإسلامي" في ما اعتبر أهم إصدار للبوسنة طوال تاريخها الذي يمتد لألف عام ، والذي يتوج احتفالات البوسنة بتأسيس مدرسة "الغازي خسرو بك" الإسلامية ومرور خمسة قرون على إسلامها .. فما هي قصة إسلام البوسنة والهرسك أو قصة الإسلام في البلقان ؟
الفتح العثماني للبلقان
"البلقان" هو الإسم الذي يطلق على شبه جزيرة كبيرة توجد جنوب شرقي القارة الأوروبية ، وتضم ست دول هي ألبانيا و اليونان ورومانيا و بلغاريا و الجزء التركي في أوروبا ، إضافة ليوغسلافيا التي انقسمت إلى ستة أجزاء هي : "البوسنة والهرسك" و "كرواتيا" و "صربيا" ومعها "الجبل الأسود" "سلوفينيا" و "مقدونيا" و "إقليم كوسوفا" المتنازع عليه .
ولفظ "البلقنة" مصطلح أطلق على الحروب التي شهدتها منطقة البلقان طوال مراحل تاريخها . وقد بدأت سنابك خيول الفتح الإسلامي تدق أبواب أوروبا قبل أن ينقضي القرن الأول الهجري ، عندما حاصر معاوية بن أبي سفيان القسطنطينية عام 34هـ ، ثم توالت من بعده المحاولات لفتحها إلى أن تم الفتح على يد السلطان محمد الفاتح في عام 1453م .
وإذا كانت جيوش الإسلام لم تدلف إلى أوروبا من الشرق خلال ذلك القرن ، فقد عبرت مع "طارق بن زياد" في الغرب عام 92هـ إلى الأندلس .
سماحة الشيخ مصطفى تسيريتش
ويقول المؤرخون أن الوجود الإسلامي في أوروبا الشرقية يرجع إلى القرن الثالث الهجري ، حيث ذكروا أن جماعة من المسلمين كانوا يتاجرون بالفراء مع أهل أوروبا ، كانوا قد استقروا على ضفاف نهر "الفولجا" ، ثم تواصلوا مع الخليفة العباسي "المقتدر" في بغداد ، طالبين أن يبعث إليهم بمن يفقههم في الدين ، فأرسل إليهم جماعةً من المسلمين برئاسة "ابن فضلان" الذي كتب وصفا لرحلته الشهيرة إلى بلاد البلغار .
ومع اعتناق القبائل التتارية التي غزت أوروبا الإسلام ، وبخاصة "القبيلة الذهبية" التي كانت تسيطر على منطقة شمال البحر الأسود وحوض نهر "الفولجا" الأسفل ، توسع أمر الدين الإسلامي الحنيف .
وحدث أن هاجر مسلمو الفولجا وانتشروا في بلاد البلقان ، ولكن أثرهم على أهل البلاد الأصليين كان محدوداً .
أما الباب الواسع الذي دخل منه الإسلام إلى أوروبا الشرقية ، فكان الفتوحات العثمانية التي تُوّجت بالسيطرة على مضيق الدردنيل وفتح القسطنطينية عام 1453م .
وكانت الجيوش العثمانية قد عبرت الدردنيل وسيطرت على "ثريس" التي تقع في الزاوية الشمالية الشرقية من اليونان المعاصر ، في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي . وحاول الصرب والبلغار استعادة المنطقة ، لكنهم لم يصمدوا أمام السلطان "با يزيد" المسمى بالصاعقة ، الذي هزمهم هزيمة ساحقة في معركة "كوسوفا عام 1389م ، والذي واصل تقدمه للسيطرة على بلاد الصرب في عام 1391م ، ثم بلغاريا عام 1391م ، ثم توقف الزحف العثماني بعد ذلك إلى حين بسبب غزو جحافل "تيمورلنك" المغولي للأناضول .
لكن العثمانيون أعادوا تشكيل قوتهم ووسعوا مملكتهم مرة ثانية ، فقاموا بغزو أوروبا من جديد ، واستطاعوا الاستيلاء على "ألبانيا" و "سلونيكا" في عام 1430م ، ثم صربيا عام 1439م ، ثم جاء الفتح العظيم للقسطنطينية ، عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية عام 1453م ، على يد السلطان محمد الفاتح .
ووقع ميناء "جاليبولي" في أيدي المسلمين في نفس العام مما سهل السيطرة على شبة جزيرة البلقان ، ثم تم لهم فتح جنوب اليونان 1458م والبوسنة 1463 وواچيا "رومانيا" عام 1475م .
واستمر الزحف الإسلامي العثماني المظفر حتى مدينة "فيينا" ، التي حوصرت في الثاني عشر من سبتمبر 1683م ، وطال حصارها ، لكن دون فتح ، حيث كان نجم الإمبراطورية العثمانية في طريقه إلى الأفول .
وكان أهل البوسنة ، قبل الفتح الإسلامي التركي يدينون بالنصرانية ، وكانت لهم دولة وملوك .
وفي عهد السلطان "مراد الأول" ( 761-791هـ ) ، بدأ الإسلام ينتشر في البوسنة ، حيث كان بين ملكهم والسلطان "مراد" عهداً ، يدفعون بموجبه الخراج للدولة العلية . وقد استمر هذا الوضع إلى أن تولى السلطان محمد الفاتح الحكم ، فنقض ملك البوسنة العهد وامتنع عن دفع الجزية ، فسيّر إليه السلطان العثماني جيشا حاربه وأسره وقتله بعد قتال شديد ، دخلت بعدها البوسنة حظيرة الإسلام ، وأسلم أغلب أهلها وبخاصة الأشراف ، وذلك في عام 867هـ ، فيما تأخر فتح الهرسك 20 سنة